التسمم النفسي
جميعنا نُدرك أن من حولنا أشياء تُشكل
خطراً على صحتنا الجسمية؛ فنعمل
جاهدين للابتعاد عنها، وتحذير منحولنا منها. غير أن الكثير منا لا
يُدركون ما يُشكل خطراً على الصحة
النفسية بشكل عام، ولأبنائنا على وجه
التحديد. خاصة الأطفال الذين هم في طور
بناء شخصياتهم المستقلة.
فالقليل من الأخطاء التربوية قد
تصيبهم بالتسمم النفسي، والذي بدوره
يعيق صحتهم النفسية بشكل عام، وبناء
شخصيات سوية لهم بشكل خاص.
وتكمن الخطورة في أن التسمم من حولنا –
رغم تعدد أشكاله-: من شأنه أن يظهر بشكل
أو بآخر على أجسامنا، وبصورة سريعة
ومباشرة؛ مما يدفعنا لعلاجه، والوقاية
منه قدر المستطاع، والحذر من استخدامه
أو تناوله مرة أخرى. وبالتالي فإن
تأثيره يكون عابراً ومحدوداً نسبياً.
أما التلوث النفسي: فهو وباء يهز أنفس
الأبناء بخفاء؛ فيتراكم في أنفسهم
وأفكارهم؛ حتى يصل للتسمم النفسي،
والذي تظهر أعراضه لاحقاً في
سلوكياتهم، أو من خلال انفعالاتهم من
حين لآخر، إن لم تضطرب بها شخصياتهم
على مدار حياتهم.
والسؤال المهم هو: كيف يمكن لهذا
التسمم النفسي أن يتسلل لأطفالنا رغم
حرصنا عليهم؟
ولتقريب الصورة بشكل أفضل: يمكن أن
نوضح التسمم النفسي قياساً على التسمم
الجسمي. وتحديداً التسمم الغذائي؛
لقرب وجه الشبه بينهما. فنلاحظ أن
التسمم الغذائي قد يحدث عن طريقين
رئيسيين:
أحدهما: التسمم بالغذاء المفيد في
أصله، لكن ضرره في طريقة تقديمه،
كتناول البيض دون طهيه جيداً، وأكل
اللحوم دون أن تكون ناضجة بشكل جيد.
فهما في الحقيقة جيدان في ذاتهما
ومفيدان، وتحتاجهما أجسامنا وأجسام
أبنائنا، لكن نحتاج تقديمهما بطريقة
صحيحة، وتوقيت مناسب في إعدادهما؛
ليكونا مفيدين لنا جميعاً.
والآخر: يمثل أنواعا كثيرة من الأطعمة
التي تحتاجها ـ أيضاً ـ أجسامنا، لكن
نظراً لفساد محتواها؛ نتيجة تعرضها
لأوضاع استثنائية، أفسدت محتواها
كتعرضها للحرارة، أو تركها مكشوفة،
فإنها حتماً تُصبح خطرة، ويجب الحذر من
تناولها.
وكذلك التسمم النفسي يحدث عن طريقين:
أحدهما عن طريق أفكار أو سلوكيات سليمة
المحتوى، وصالحة للاستخدام، لكن تقدم
بطريقة غير صحيحة، أو وقت غير مناسب؛
فتسبب التلوث النفسي. وأخرى نتيجة
تلوثها بأمور دخيلة عليها؛ مما يجعلها
فاسدة المحتوى؛ لاحتوائها على بعض
الأفكار الخاطئة التي تحتاج للتقويم،
قبل نقلها لعقول صغارنا. فالأفكار – كما
هو معلوم- غذاء العقل، وأي تلوث فيها
يُحدث بالتالي التسمم الفكري، والذي
بدوره يؤثر على الحالة النفسية،
وطريقة التفكير، والتي تتحكم بشكل
رئيس بالمشاعر والسلوك الإنساني.
فأفكارنا وسلوكياتنا نحو أبنائنا في
بعض المواقف: قد تكون شديدة الخطورة
على صحتهم النفسية، رغم صحة مقاصدها
وأهدافها وسلامتها في مواقف أخرى، لكن
بسبب الخطأ في الأسلوب أو التوقيت، أو
كليهما ينتج الخطر. وذلك ما يسمى
بالتسمم النفسي، حيث إن ظاهر بعض
سلوكياتنا وأفكارنا التي ننقلها
لأبنائنا، قد تنطلق من مبدأ خوفنا
عليهم، أو حرصنا على سلامتهم وتميزهم.
غير أن ذلك يحمل في ثناياه تسمماً
لأنفسهم البريئة، وشخصياتهم الغضة.
ففي هذا المشهد مثلاً: قد يحاول
الوالدان التشديد على الطفل؛ ليبدو في
مظهر حسن أمام الضيوف؛ فيمطرانه
بالتعليمات: انتبه، وافعل، ولا تفعل،
ويصوران له المشهد، وكأنه سيكون محورا
لأنظار الجميع. فعليه أن يكون مرسوم
المظهر، ومحسوب الخطأ، منتقي للكلمات
بكل مثالية؛ لأن أي خطأ سيجعله
منتقداً، وسيسخر من سلوكياته: كل من
يراه. فهذا الأسلوب رغم أنه أسلوب يهدف
للتوجيه بالدرجة الأولى، لكنه بتقديمه
بأسلوب خاطئ، يحدث التشوه في تفكير
الأبناء؛ فيحوله لطريقة قلقة، تسبب
لهم الارتباك والخوف من المواقف
الاجتماعية؛ لأنها تنقل تفكيرهم من
التركيز على الأداء إلى التوجس من
الانتقاد، نتيجة أي خطأ بناءً على
اعتقاده أنه محور أنظار الجميع،
وبالتالي يتجنب المواقف الاجتماعية؛
حتى يتجنب الانتقاد أو الخطأ. مما
يُنبت لديه القلق الاجتماعي فيبدأ
يستثقل مقابلة الضيوف، ومواجهة
الغرباء وتمتد به؛ ليصبح منعزلاً يهاب
المواجهة مع الغرباء، أو حتى في الكثير
من التجمعات. وإن كانت تجمعات من
أقاربهم وخاصتهم؛ نتيجة شعوره بأنه
محاط بسياج من أوامر ونواهي الوالدين،
وأعين ونقد الحاضرين أيضاً. وحتى لا
يكون محل سخريتهم. وهذا تلوث فكري
وانحراف بتفكير الأبناء من النوع
الأول، الذي هو سليم لكن يحتاج لطريقة
أفضل؛ ليكون جيداً ويؤتي ثماره، دون أن
يكون له أثر على أفكارهم وسلوكياتهم،
فيكون من باب التوجيه والتعليم
بالقدوة، وترك مساحة للتعلم بالخطأ،
دون إشعال القلق في أنفسهم بكثرة
التحذير، والحرص على المثالية الزائدة.